إن الحديث عن حقوق الإنسان في
الشريعة الإسلامية لا ينتهي بكتاب أو مجموعة كتب، إنه لا يستوعبها كلها فكر بشري و
لا يمكن أن يعبر عنها بدقة قلم إنسان، لأنها من عند الله، الذي أحاط علمه بكل
شيء..فهو الذي شرعها لعباده كلهم،دون استثناء،
فهي إذن من عند الله..فروض و واجبات
شرعية، تأخذ حكم الفرض و الواجب، و يذهب بعض العلماء إلى القول بأنها ضرورات، و هي
أعلى درجات المصالح على الإطلاق، و تحميها حدود، و إلى أنها حرمات تدخل في حمى
الله تعالى، و هي بهذا المعنى ليست منحة أو تبرعا من مخلوق لمخلوق آخر مثله منحه
إياها أو من عليه بها .. إنما هي حقوق قررها الله تعالى، بنصوص تشريعية للإنسان،
في كل زمان و مكان، دون تمييز في العرق أو الجنس أو اللون أو الدين أو المركز
الاجتماعي.
كثير من الناس يجهلون الإسلام، و
يجهلون أحكامه، و بالأخص يجهلون الحقوق التي منحا الله الإنسان، في كتابه العزيز و
سنة رسوله صلوات الله عليه و سلامه، فكان هذا الكتاب محاولة متواضعة لتقريب تلك
الحقوق الإلهية إلى أصحابها، و الإشارة إلى مصادرها الإسلامية، حيث أن توضيحها إلى
كافة الناس واجب شرعي على من يعرفها، و حق من حقوق هؤلاء، على أساس أنها علم، و
العلم فريضة إسلامية، نزلت بها أول آية من القرآن على الرسول الكريم و هو يتعبد في
الغار.
إن الظروف التي تعيشها الأمة
الإسلامية، تتطلب منا تظافر الجهود، و العمل على توسيع نشر أحكام الشريعة
الإسلامية و تعميقها في قلوب المسلمين في مشارق الأرض و مغاربها، و العمل على
تطبيقها في الحياة اليومية للمسلم، في جميع شؤون حياته، لأنه لا إيمان صحيح دون
الاحتكام إلى الشريعة، كانت الشريعة الإسلامية المصدر الذي استقى منه الغرب مادة
حقوق الإنسان في تشريعاته الخاصة بهذا الشأن، و ذلك بعد أن استفاد من الحضارة
الإسلامية في فترة ازدهارها، و بعد أن انتقلت إليه عن طريق بلاد الأندلس و المغرب
و المشرق العربيين، و إيطاليا و غيرها.. فاستوعبها و أحسن استغلالها بعد أن هضمها
دون أن يقضي عليها و بلورها بطريقة لا تخفى على أحد، و أعطاها -تعسفا- طابعه الذي
نراها عليه اليوم، متغافلا عن أصولها الإسلامية.
لم أعتمد في هذا البحث منهج
المقارنة، لأنه لا يفيد، بل يستحيل أيضا. إذ أن حقوق الإنسان في الشريعة الإسلامية،
لا يمكن بأي حال من الأحوال مقارنتها بحقوقه في القوانين الوضعية، و ذلك نظرا
لاختلاف الشريعة عن القوانين الوضعية، مصدرا و طبيعة و خصائص و نتائج. فهذا الاختلاف
الجوهري بينهما يجعل المقارنة مستحيلة حتى و لو أردنا ذلك. لأن المقارنة تقتضي -
منطقيا- مساواة المقارن بالمقارن به، فإذا انعدمت المساواة، فلا مقارنة، و لا قياس
بين الشيئين، أو كانت المقارنة باطلة.
لقد شملت حقوق الانسان في الشريعة
الإسلامية كل حياة الانسان على اختلاف أسبابها و أهدافها، من قبل ولادته، و إلى ما
بعد وفاته، ذكرا كان أم أنثى، أبيض أو أسود، غنيا كان أو فقيرا، فالناس في الإسلام
سواسية كأسنان المشط، لا فضل لأحد منهم على الآخرين إلا بالتقوى و العمل الصالح.
إن
شمول حقوق الإنسان في الإسلام لكل مرافق الحياة الإنسانية، و تعددها يجعل من
المستحيل على الباحث أن يلم بها أو يحصرها كلها مهما كانت ثقافته و درجة ذكائه،
لأنها تشريع إلهي، يدركها هو و لا ندركها، و لأن خصوصيات الإسلام الذي هو دين
سماوي، و آخر الأديان، أنه لا يمكن فهمه و السيطرة عليه كله دفعة واحدة. و إنما
يمكن فهم بعض نصوصه و أحكامه على مراحل مختلفة و طويلة الأمد، تشمل كل مراحل تطور الإنسانية،
من بداية نزول القرآن و إلى أن يرث الله الأرض و من عليها. و بعبارة أخرى أن العقل
البشري، و مهما لحقه من تطور معرفي، فلن يدرك كل أسرار القرآن الكريم و السنة
النبوية بسهولة و بيسر، لأن العقل مخلوق مع الإنسان، و الإنسان عاجز جدا و غير
قادر على أن يتجاوز سنة الله فهو قاصر أمام عظمة الخالق سبحانه و تعالى يمكنه أن
يعرف بالتدريج و شيئا فشيئا أسرار الكون، غير أنه لن يستطيع معرفتها كلها دفعة
واحدة.
و
حقوق الإنسان واردة في القرآن و السنة و غيرهما من مصادر التشريع الإسلامي، فلا
يكاد المرء يقرأ آية من آيات القرآن أو حديثا من أحاديث الرسول عليه الصلاة و
السلام، إلا و يجد حقا من حقوق الإنسان مجسدا، أو واجبا من الواجبات الشرعية، و
كلاهما يمس حقا أو حقوقا من حقوق الإنسان، و نتيجة لذلك كانت حقوق الإنسان في
الشريعة الإسلامية كثيرة و متعددة، و في منتهى الروعة و السمو، لأنها تجسد روعة و
سمو مشرعها الذي هو الله تعالى. و قد تعمدت في لهذا البحث المتواضع أن أعرف بإيجاز
بالشريعة الإسلامية و بمصادرها الأصلية: القرآن و السنة و الإجماع و القياس، و
بمصادرها التبعية الأخرى، كي تتكون للقارئ الكريم فكرة مختصرة عن مصادر الشريعة
الإسلامية، و عن خصائصها و مميزاتها و مبادئها. و إن البحث قد كل تلك المصادر،
لأنها أساس الأحكام في النظام الإسلامي، خصوصا القرآن و السنة النبوية و الإجماع.
إن
الباحث في مختلف التشريع الإسلامي، عن حقوق الإنسان، يتوه بشكل لا يتصور، نظرا
لكثرة تلك الحقوق و تشابكها تشابكا ليس في استطاعة الباحث أن ينظمه و يوضبه
بالسهولة و بالطريقة التي يريد.. و مع ذلك اجتهدت و صبرت، و استنجدت بالعناية
الإلهية، و استمدت من الخالق مزيدا من العون و التقوى و الصبر الجميل .. فوفقني
سبحانه و تعالى لكتابة هذا الشيء القليل و المتواضع عن حقوق الإنسان و ما أكثرها
في الإسلام .. واقتصرت على ما استطعت فهمه أنه حق للإنسان، و تركت الأغلبية من تلك
الحقوق لذي العلم و أولي النهى، للكتابة عنها و إبرازها في المستقبل.
المصدر:حقوق
الإنسان في الإسلام، مولاي ملياني بغدادي، قصر الكتاب -البليدة-