إن لدى الإنسان من أسباب الجدل و النقاش
ما لا يبلغه الإحصاء " و كان الإنسان أكثر شيء جدلا .الكهف 45 " . إن في
الإنسان منذ طفولته ميلا طبيعيا إلى التساؤل عما يجري حوله ، و يدور في خلده ، و
رغبة ملحة في الاطلاع على حقائق الأشياء و عللها و أسبابها ، و في انتقاد الآخرين
في عقائدهم و أعمالهم و أقوالهم ، ولكن الإنسان كثيرا ما ينخدع بالمشاهدة السطحية
للوهلة الأولى ، فيجادل و يناقش على هذا الأساس ، أساس ما سمعه من الأقوال ، وألفه
من العادات و انقاد إليه من النزعات الشخصية . و إلى هذا أشارت الآية 9 من سورة
الحج : " و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا كتاب منير " . و
قبل أن نعرض أدلة المؤمنين بالله نذكر طرفا من جدل أولئك الملحدين ، وما علق
بأذهانهم من الأوهام . فمن أوهامهم هذا السؤال الذي يعرض للبسطاء السذج :
-
إذا كان الله قد خلق العالم فمن حلق الله ؟
وبقليل من التفكير ندرك أن هذا التساؤل من
مخلفات عهد الطفولة ، مرحلة " السن السئول " . أما الذين نضجت عقولهم
فيدركون أن كلمة " خلق الله العالم " تعني أنه تعالى خالق غير مخلوق ، و
أن كل ما عداه يتلقى وجوده منه ، و لم يتلقى هو وجوده من أحد . إذن ينبغي أن يكون
التساؤل على الشكل التالي :
لماذا يجب علينا الإيمان بأن الله موجود منذ
القدم لا يفتقر إلى موجد و أنه يهب الوجود لكل كائن سواه ؟
الجواب :
لو
قلنا : إن كل كائن حي لا بد أن يستمد وجوده من غيره للزم أن لا يوجد شيء أبدا ،
لأن معنى قولنا لا يوجد إلا بعد أن يأخذ ، معناه أنه لا أحد يعطي أبدا . مثلا ، لو
افترضنا أن النقد لا يمكن أن نأخذه من شخص إلا أذا أخذه هو من شخص آخر ، بحيث
يستحيل أن يوجد فرد أو هيأة ، للزم أن لا يوجد شيء يسمى نقدا . و مثلا أخر : تعلمت
نظرية النسبية من أستاذك ، و تعلمها هو من أستاذه ، و هكذا إلى أن يصل الدور إلى اينشتاين
الذي اكتشفها بنفسه ، و لو افترضنا أن أحدا لم يكتشفها من تلقائه لكانت هذه
النظرية مجهولة حتى اليوم . وهكذا علم النحو وسائر العلوم لا بد أن تنتهي إلى شخص
معين ، وإلا لم يكن لها عين و لا أثر . و بتقريب ثان ليس من شك أنه قد وجد شيء
كالأرض و النجوم ، و إذا وجد شيء وجب أ، يكون قد وجد شيء بالضرورة يحمل في ذاته
غلة كافية لوجوده منذ الأزل ، لأن كل ما يوجد إما أنه وجد بذاته دون أن يتلقى
وجوده من غيره ، و إما أن يكون قد تلقاه من موجود آخر، فإذا كان وجوده من ذاته لا
من غيره فهو موجود بالضرورة ، و هو الله ، و أما إذا كان تلقاه من غيره فلا بد أن
يكون هذا الغير قد وجد بالضرورة و لم يستمد وجوده من أحد .
و بتعبير ثالث أن الباحث العلمي إذا لم يدرك
سبب الحوادث مباشرة لجأ إلى الافتراض فيفترض وجود شيء يفسر الحادث على أساسه ، ثم
يختبر هذا التفسير ، و هنا افتراضان لا ثالث لهما : الأول أن يفترض أن كل موجود
يتلقى وجوده من غيره بحيث لا يوجد شيء بلا سبب . الثاني وجود شيء بذاته و لم يتلق
وجوده من غيره . و الفرض الأول باطل حيث يلزم عنه عدم وجود شيء ، فيتعين الثاني و
هو وجود علة أولى تعطي ولا تأخذ . و من هنا قال فولتير : " إن الرأي القائل
بأن الله غير موجود ينطوي على أمور مستحيلة " أي يلزم منه ، لا
يوجد شيء أبدا ، وهو خلاف المشاهد بالبديهة و بالتالي فإن الأدلة العقلية تحملنا
على الاعتقاد بوجود كائن بالضرورة و هو الله تبارك و تعالى . وتوهم الملحدون أن
الكون لا يحتاج إلى موجد ، لأنهم لم يدركوه بالحس ، ولم يستعملوا في معرفته العقل
.