من خلق الله؟

       
   إن من يدعي وجود شيء خفي يقع عليه عبئ الإثبات ، سواء أكان ذلك الشيء حقا من الحقوق أم مسالة علمية أم فنية أم تاريخية ، أم كان شانا من شؤون العقيدة و الإيمان . و هذه القاعدة - البينة على من ادعى - لا يشذ عنها أحد مهما سما بعظمته و مركزه و مهما وصف و عرف بالعدالة والصدق ، و الورع و التدين ، و إذا وجب الأخذ بشهادته اعتمادا على إخلاصه و تجرده ، فانه ليس بفوق أن يطالب بالدليل غلى صدق أقواله ، فالله جل و على قد أقام الآيات ، و ضرب الأمثال على وحدانيته و عظمته ، وعلى يوم الحساب و الجزاء ، و دفع كل شبهة و تعلة تحوم حول وعده و وعيده . ومن هنا أمد الله أنبياءه بالحجج و البراهين القاهرة ، و شرح صدورهم لكل سائل و مجادل ، فأفسحوا المجال للمحق و المبطل ، ليقول كل ما يشاء ، و يجادل دون تصنع وتحفظ .
         إن لدى الإنسان من أسباب الجدل و النقاش ما لا يبلغه الإحصاء " و كان الإنسان أكثر شيء جدلا .الكهف 45 " . إن في الإنسان منذ طفولته ميلا طبيعيا إلى التساؤل عما يجري حوله ، و يدور في خلده ، و رغبة ملحة في الاطلاع على حقائق الأشياء و عللها و أسبابها ، و في انتقاد الآخرين في عقائدهم و أعمالهم و أقوالهم ، ولكن الإنسان كثيرا ما ينخدع بالمشاهدة السطحية للوهلة الأولى ، فيجادل و يناقش على هذا الأساس ، أساس ما سمعه من الأقوال ، وألفه من العادات و انقاد إليه من النزعات الشخصية . و إلى هذا أشارت الآية 9 من سورة الحج : " و من الناس من يجادل في الله بغير علم و لا كتاب منير " . و قبل أن نعرض أدلة المؤمنين بالله نذكر طرفا من جدل أولئك الملحدين ، وما علق بأذهانهم من الأوهام . فمن أوهامهم هذا السؤال الذي يعرض للبسطاء السذج :
- إذا كان الله قد خلق العالم فمن حلق الله ؟
 وبقليل من التفكير ندرك أن هذا التساؤل من مخلفات عهد الطفولة ، مرحلة " السن السئول " . أما الذين نضجت عقولهم فيدركون أن كلمة " خلق الله العالم " تعني أنه تعالى خالق غير مخلوق ، و أن كل ما عداه يتلقى وجوده منه ، و لم يتلقى هو وجوده من أحد . إذن ينبغي أن يكون التساؤل على الشكل التالي :
  لماذا يجب علينا الإيمان بأن الله موجود منذ القدم لا يفتقر إلى موجد و أنه يهب الوجود لكل كائن سواه ؟
  الجواب :
لو قلنا : إن كل كائن حي لا بد أن يستمد وجوده من غيره للزم أن لا يوجد شيء أبدا ، لأن معنى قولنا لا يوجد إلا بعد أن يأخذ ، معناه أنه لا أحد يعطي أبدا . مثلا ، لو افترضنا أن النقد لا يمكن أن نأخذه من شخص إلا أذا أخذه هو من شخص آخر ، بحيث يستحيل أن يوجد فرد أو هيأة ، للزم أن لا يوجد شيء يسمى نقدا . و مثلا أخر : تعلمت نظرية النسبية من أستاذك ، و تعلمها هو من أستاذه ، و هكذا إلى أن يصل الدور إلى اينشتاين الذي اكتشفها بنفسه ، و لو افترضنا أن أحدا لم يكتشفها من تلقائه لكانت هذه النظرية مجهولة حتى اليوم . وهكذا علم النحو وسائر العلوم لا بد أن تنتهي إلى شخص معين ، وإلا لم يكن لها عين و لا أثر . و بتقريب ثان ليس من شك أنه قد وجد شيء كالأرض و النجوم ، و إذا وجد شيء وجب أ، يكون قد وجد شيء بالضرورة يحمل في ذاته غلة كافية لوجوده منذ الأزل ، لأن كل ما يوجد إما أنه وجد بذاته دون أن يتلقى وجوده من غيره ، و إما أن يكون قد تلقاه من موجود آخر، فإذا كان وجوده من ذاته لا من غيره فهو موجود بالضرورة ، و هو الله ، و أما إذا كان تلقاه من غيره فلا بد أن يكون هذا الغير قد وجد بالضرورة و لم يستمد وجوده من أحد .
    و بتعبير ثالث أن الباحث العلمي إذا لم يدرك سبب الحوادث مباشرة لجأ إلى الافتراض فيفترض وجود شيء يفسر الحادث على أساسه ، ثم يختبر هذا التفسير ، و هنا افتراضان لا ثالث لهما : الأول أن يفترض أن كل موجود يتلقى وجوده من غيره بحيث لا يوجد شيء بلا سبب . الثاني وجود شيء بذاته و لم يتلق وجوده من غيره . و الفرض الأول باطل حيث يلزم عنه عدم وجود شيء ، فيتعين الثاني و هو وجود علة أولى تعطي ولا تأخذ . و من هنا قال فولتير : " إن الرأي القائل بأن الله غير موجود ينطوي على أمور مستحيلة " أي يلزم منه ، لا يوجد شيء أبدا ، وهو خلاف المشاهد بالبديهة و بالتالي فإن الأدلة العقلية تحملنا على الاعتقاد بوجود كائن بالضرورة و هو الله تبارك و تعالى . وتوهم الملحدون أن الكون لا يحتاج إلى موجد ، لأنهم لم يدركوه بالحس ، ولم يستعملوا في معرفته العقل .
 

شارك الموضوع

إقرأ أيضًا